إن تولى أهل التوحيد والإيمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة نوع من
أنواع التمكين، وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع من التمكين في
قصة يوسف عليه السلام, قال تعالى:"اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" [يوسف: 55].
لقد تقدم يوسف عليه السلام بهذا الطلب إلى ملك مصر المشرك من أجل
عقيدته ودعوته وتقديم الخير للناس، ولقد تحرك يوسف عليه السلام وفق
الإمكانات والظروف التي مرّ بها واستفاد من الفرصة التي سنحت له.
وهذا المسلك الذي اتخذه يوسف عليه السلام يدلنا على أن طرائق نشر
الإسلام، ودعوة المجتمعات إلى الإيمان له أكثر من سبيل، كما أن هذا
المسلك لا يوجد فيه تناقض بين المبدأ الذي يحمل رايته، وهو أن
الحكم لله والعبودية المطلقة للواحد الديان وبين توليه الوزارة،
ليجعل المجتمع أقرب إلى دعوة الله، وهذا أمر لا شك فيه، لأن يوسف
عليه السلام نشر دعوة التوحيد في السجن فكيف به وهو في سُدّة الحكم.
إن دخول يوسف عليه السلام في الوزارة كان سندًا للحركات الإسلامية
المعاصرة التي ترى جواز المشاركة في الحكومات الجاهلية إذا كان
للمشاركة مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير، ولم يكن بإمكان المشارك أن
يغير في الأوضاع تغييرًا جذريًا, وذهب إلى هذا الاجتهاد كثير من
العلماء وأهل الحل والعقد في الحركات الإسلامية المعاصرة إلا أن
هذه المسألة لم تخل من معارضة بعض الباحثين الذين استدلوا بأدلة
تدل على عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة
الله, واعتبر مسألة المشاركة في الحكم من مسائل العقائد، والذي
يبحث في هذه المسألة من الناحية الشرعية والممارسات التاريخية يصل
إلى نتيجة أن المسألة تدخل تحت السياسة الشرعية للجماعة المسلمة
الرشيدة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه؛ ولذلك سنحاول
أن نناقش الموضوع مناقشة علمية هادئة بعيدة عن التوتر والتشنج،
وإنما مقصدنا الوصول إلى ما يحبه الله ويرضاه.
أدلة المانعين والقائلين بالجواز في
المشاركة في الحكم
أولاً: أدلة المانعين المشاركة في الحكم:
يرى أصحاب الرأي الذي يمنع دخول الإسلاميين من المشاركة في الحكم
أدلة من أهمها:
1- النصوص الحاكمة على من لم يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم
والفسق:
قال تعالى: +"وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة: 44].
وقال تعالى: "وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45].
وقال تعالى: "وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة: 47].
2- إن الحاكمية يجب أن تكون لله وحده:"إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ
أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
إِيَّاهُ" [يوسف: 40].
3- نهى رب العالمين المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله،
وجعل ذلك منافيًا للإيمان, قال تعالى:"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
4- في المشاركة في الحكم غير الإسلامي مفاسد عظيمة، فالذين لا
يحكمون شرع الله يحادون الله في أمره، وينازعونه في حكمه "إِنِ
الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ"
[يوسف: 40]، "وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف:
110]، فكيف يشارك المسلم في هذا النوع من الحكم؟
5- مشاركة المسلم في هذا النوع من الحكم توقعه في تناقض كبير،
فالمسلم مطالب بأن يجاهد، لإقامة حكم الله، وينكر أشد الإنكار على
من حكم بغير ما أنزل الله، فكيف يكون مقيمًا للحكم بغير ما أنزل
الله.
6- إن طاعة الحكام فيما يشرعونه مخالفين أمر الله تعنى اتخاذ
المطيع لهم أربابًا من دون الله، كما قال تعالى: "اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
إِلَهًا وَاحِدًا" [التوبة: 31].
7- من المفاسد التي تترتب على المشاركة أن بعض الحكام قد يتخذون من
يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلون بها حكمهم، ويدلسون
بذلك على السذج والعوام، فيقولون: لو كنا على الباطل لما قبل فلان
مشاركتنا في الحكم، ويزداد الطين بلة عندما يمررون من خلال الوزير
المسلم القوانين الجائرة الظالمة وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم
ينبذونه نبذة النواة.
8- وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا، وقد حذرنا الحق من
الركون إليهم: "وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" [هود: 113].
9- وقد يكون في المشاركة في الحكم إطالة لعمر هذا النمط من الحكم
الذي يحكم بغير ما أنزل الله في بعض الأحيان (1).
ثانيًا: أدلة القائلين بالجواز:
قالوا: إن الأصل عدم جواز المشاركة ولكن هناك حالات استثنائية
أباحت الشريعة فيها المشاركة، واستدلوا بأدلة من أهمها دخول يوسف
عليه السلام في الوزارة:
1- إن يوسف عليه السلام تولى المنصب الذي تولاه بإذن الملك وإرادته،
يدلنا على ذلك طلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه: "قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" [يوسف: 55].
فالنص صريح في الدلالة على أن الملك هو الذي يملك التولية, والنص
صريح أيضًا في أن يوسف عليه السلام قد طلب منصبًا في دولة الملك،
ولم يطلب أن يعزل الملك نفسه ولم يكن ذلك الطلب لنفسه.
قال سيد قطب - رحمه الله-: (لم يكن يوسف يطلب لشخصه، وهو يرى إقبال
الملك عليه، فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض، إنما كان حصيفًا في
اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي
التبعية الضخمة في أشدّ أوقات الأزمة، وليكون مسئولاً عن إطعام شعب
كامل) (2).
ويرى ابن تيمية - رحمه الله -: (أن هذا المجتمع الكافر لا بدّ أن
يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل
بيته وجنده ورعيته، ولا تكون جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم
يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن
القوم لم يستجيبوا له، لكنه فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال
بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن أن يناله بدون
ذلك - وهذا كله داخل في قوله تعالى: "فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]) (3).
لقد اعترض المانعون على المجيزين في استدلالهم بقبول يوسف عليه
السلام للوزارة وقالوا: إن شرعنا لا يجيز تولى الوزارة في ظل حاكم
غير مسلم، وأما تولى يوسف للوزارة فهو شرع لمن قبلنا، وشرع من
قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضه.
ورد المجيزون على هذا الاعتراض
بوجوه:
الوجه الأول: أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلام بل
شرائع الأنبياء جميعًا متفقة في تقرير حاكمية الله تبارك وتعالى.
فيوسف عليه السلام يقرر في مخاطبته للفتيين اللذين دخلا معه السجن
أن الحكم لله وحده +إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" [يوسف:
40].
ويشرح الأستاذ سيد -رحمه الله- كلمة يوسف هذه بقوله: إن الحكم لا
يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من
خصائص الألوهية, من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى
خصائص الألوهية (4).
ويوسف عليه السلام الذي يعلم هذا الحكم المقرر في جميع الأديان هو
الذي يتولى منصب عزيز مصر، ويقول للملك:"اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الأَرْضِ" [يوسف:55].
فيتولى هذا المنصب وهو يعلم أن للملك نظامًا وشريعة لا يستطيع أن
يزيحها بين عشية وضحاها: "مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ" [يوسف: 76].
يقول سيد قطب في الظلال: (إن هذا النصر يحدد مدلول كلمة الدين في
هذا الموضوع تحديدًا دقيقًا، إنه يعنى نظام الملك وشرعه، فإن نظام
الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته) (5).
فإذا كان فقه يوسف للحاكمية هو نفس الفقه المقرر في شريعتنا ومع
ذلك تولى الوزارة فإنا نجزم في هذا المقام بأمرين:
1- أن توليه للوزارة لم يناقض عقيدته في كون الحاكمية لله وحده.
2- وأنه لم يكن مخطئًا عندما تسلم الوزارة، لأنه نبي معصوم.
الوجه الثاني: ومما يدل على نفى هذه الشبهة
وإبطالها إخبار الحق تبارك وتعالى أن استلام يوسف الوزارة كان رحمة
ونعمة ولم يكن عذابًا ونقمة، "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ
فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ
بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف:
56،55].
فالله يقرر أن تسلم يوسف للوزارة هو من باب التمكين له في الأرض،
وأنه رحمة أصابه بها وأنه أجر دنيوى عاجل، وما ينتظره من الثواب
الآجل أعظم وأكبر "وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" [يوسف:57].
ويوسف عليه السلام يصرح بأن تسلمه للحكم كان من نعمة الله عليه،
ولم يكن نقمة:"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [يوسف: 101].
الوجه الثالث: والنصوص التي ذكرت تدل على أن هذا
الحكم ليس خاصًا بنبي الله يوسف، دون سواه، وذلك أن النص صيغ صياغة
عامة: "نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56].
ثم من ادعى أن هذا الحكم خاص بيوسف دون سواه عليه أن يأتي بالدليل،
لأن الأصل في سير الأنبياء والمرسلين يراد به التأسي والاقتداء،
فكيف إذا جاءت النصوص القرآنية نافية الخصوصية مشيرة إلى العموم
(6).
لقد تحدث المفسرون في هذه القضية:
1- نقل
القرطبي - رحمه الله - عن بعض أهل العلم: (إباحة طلب الرجل الفاضل
أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء،
وأمّا إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز
ذلك، ونقل القرطبي عن قوم أن هذا كان ليوسف خاصة دون غيره، ولكنه
رجح القول الأول) (7).
2- واستدل الألوسي- رحمه الله - بطلب يوسف الولاية على جواز ذلك
لغيره إذا كان الطالب قادرًا على إقامة العدل وإجراء أحكام
الشريعة, وإن كان من يد الجائر أو الكافر، بل ذهب الألوسي إلى أنه
قد يجب الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعينًا
لذلك (8).
3- وقال الشوكاني: «وقد استُدل بهذه الآية على أنه يجوز تولى
الأعمال جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام
بالحق» (9).
وهذا من أقوى الأدلة في جواز المشاركة في الانتخابات.
ــــــــــــــ
(1) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية ص (29، 32).
(2) في ظلال القرآن (12/2005).
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/56، 57).
(4) في ظلال القرآن (12/1990).
(5) في ظلال القرآن (13/2020).
(6) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر
الأشقر ص29، 32.
(7) تفسير القرطبي (7/215).
(8) تفسير الألوسي (13/5).
(9) فتح القدير (3/35).